نشر المقال التالي بتاريخ الأحد 17 دجمبر 1989، بعنوان : أزمة مثقفين أو مثقفو أزمة ، في جريدة الشعب الوطنية أما كاتبه فهو الشخصية الإعلامية والسياسية المعروفة و العمدة السابق السيد محمد الحافظ ولد احمد مسكه رحمة الله عليه و قد أمدنا بهذا المقال الصحفي المتميز محمد ولد عبد القادر فله جزيل الشكر ولامتنان. ويعرض المقال المثقف الموريتاني بدأً بماهيته و مرورا بتطوره التاريخي وانتهاء بأهم الصعوبات التي تواجهه .
أزمة مثقفين أو مثقفو أزمة…([1])
بقلم: محمد الحافظ ولد أحمد مسكه
في الآونة الأخيرة تدخل بعض المثقفين عبر وسائل الإعلام المختلفة لمعالجة ما يسمى “أزمة المثقفين” بعبارة أخرى أن هؤلاء كمثقفين قاموا بنقد ذاتي لتصرفاتهم الخاصة.
وقد تفاوتت حدة هذا النقد الذاتي من كتاب لآخر حسب اختلاف الذوق والأسلوب، وحسب تصور هذا وذاك لأبعاد المشكلة المطروحة، والحقيقة أن النقد الذاتي هو في حد ذاته عمل نزيه وإيجابي لأنه اعتراف بالمشاركة في المسؤولية.
لكن الأهم هو أن ينطلق المثقف ـ الناقد من ذاته وبشجاعة في طرق التضحية والانضباط ونكران الذات من أجل التقويم والخلاص عندئذ يكون الأسوة الحسنة لمجتمعه والتعبير الصادق للمثقف المثالي.
|
كان الاتجاه العام لهؤلاء المتدخلين هو أن المثقف الموريتاني يقع بالفعل في أزمة، وإن هذا الأمر لم يعد مجرد افتراض.. وإنما أصبح في المسلمات البديهية. من جانبي فإني ألتزم بعض الحذر في إصدرار مثل هذا الحكم على هذه الفئة من مجتمعنا. والحقيقية أنني لا أريد إثارة جدل حول الموضوع من أجل الجدل وابعد من ذلك أن تكون نيتي محاولة نقد النقد.. ولكن وجهة نظر أمر يهم صميم وجداننا وبالأخذ والعطاء نتوصل إلى حل يقبله الجميع.
إن النزاهة الفكرية تدعونا، قبل إصدار حكم نهائي على المثقف الموريتاني، أن نضعه في إطاره التاريخي الصحيح بمعنى أن نعالج الموضوع لإشكالية ذات أبعاد متعددة يحب أخذها بعين الاعتبار كما يوحي بذلك عنوان المقال. لذا فإنني سأتناول الموضع من خلال المحاور التالية:
ـ ماهية المثقف الموريتاني
يمكن تعريف مثقف العالم الثالث ـ لأن لا أقول الإطار ـ في أضيق الحدود وأبسط المعاني بأنه ذلك الإنسان الذي يحمل امتيازات جامعية والحاصل على مؤهلات دراسية نم إحدى مؤسسات التعليم العالي. وبالطبع فإن للقارئ الحق في الاعتراض على هذا التعريف لكن المهم أنه من هذا المنظار بالذات يصبح المثقفون الموريتانيون ينتمون في غالبيتهم العظمى إلى جيل ما بعد الاستقلال ففي هذه الفترة كان حاملوا الثانوية العامة يعدون على رؤوس الأصابع فبالأحرى ما كان ذلك من الدراسة.
غير أن مجتمع المثقفين سيعودون إلى البلاد على مراحل يمكن تصنيفها في الفترات التالية:
أ ـ فترة أوائل الستينات: وتميزت أساسا بخريجي الجامعات الغربية؛
ب ـ أواخر الستينات و أوائل السبعينات: وتميزت أساسا بخريجي مؤسسات الدول العربية
ج ـ أواخر السبعينات ـ الثمانينات: وهي فترة تميزت بما يمكن أن نسميه بالإنتاج المحلي إن صح هذا التعبير (المدارس المهنية العليا ثم جامعة انواكشوط..)
أ ـ أوائل الستينات:
في هذه الفترة عادت البلاد دفعة من خريجي الجامعات الغربية الفرنسية أساسا ولأسباب معروفة، والحقيقة أن هؤلاء على قلتهم كانوا وحدهم المؤهلون آنذاك لاستخلاف الإدارة الفرنسية المختفية وراء الكواليس بعين يقظة وذلك بعد أن حصلت البلاد على استقلالها السياسي. وهكذا وجدوا أنفسهم أمام أمر واقع وهو بناء دولة قبل بناء الأمة نفسها. وكان عليهم التعاون مع الساحة لا بالطريقة التي يريدونها هم أنفسهم ولكن كما يريد المستعمر الذي ما زال يملي إرادته مباشرة عبر مختلف هياكل الدولة. هذا الجيل المخضرم هو مؤسس الدولة الموريتانية ولا شك أنه قام بمجهودات محمودة في بناء هذا الكيان والدفاع عنه في ظروف خاصة، فهل قام بدوره كاملا أن هو قصر في المجهودات التي كان عليه أن بذلها.
إنني أقول فقط بأن لهم ما كسبوا ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون؛
ـ أواخر السبعينات ـ أوائل السبعينات:
ستشهد الساحة الفكرية والثقافية جديدا بعد عودة خريجي الجامعات العربية في هذه الفترة بالذات. فهؤلاء قد عادوا يحملون رسالة العروبة والتعريب. غير أنه كان عليهم، بادئ ذي بدء، أن يفرضوا وجودهم لينتزعوا مكانتهم في المجتمع الموريتاني المستقل، في التوظيف والسؤوليات وفي التوجيهات العامة للدولة باختصار في المشاركة الفعلية في بناء الوطن، فكانت إذا معركة مصير وكانت حامية الوطيس لأنهم وجدوا سوق الفرص قد سدت أمامهم على النمط التقليدي المتفرنس من جهة ولأنهم، من جهة أخرى، كانوا يريدون إدخال التعريب في وقت كانت العربية فيه تراد للدين لا للدنيا. فبدأت التيارات الفكرية والصراعات الإيديولوجية لهذه البني الأساسية للمجتمع بل وللأسلوب التقليدي المعتمد للدولة نفسها. ويمكن القول بأن هذه التناقضات لم تكن سلبية لأنها أنعشت الساحة الفكرية وأعطت دفعا جديدا لعجلة التقدم في البلاد.
ولا شك أن هذه الدفعة قد ساهمت هي الأخرى إيجابيا في مجرى الأحداث بالرغم من الصعوبات الموضوعية التي تعرضت لها. ولنترك الحكم عليها للتاريخ يصدره في الوقت المناسب.
ـ أواخر السبعينات ـ الثمانينات:
هذه الفترة تضعنا أما جيل من خريجي مؤسسات الوطنية وهو جيل انطلق من الواقع الموريتاني واقتبس معرفته من معالم الحضارة الموريتانية ولذا فقد يكون في تفكيره وفي فلسفة حياته أوسع إلماما بأسرار البيئة والمحيط المحليين وبالتالي أكثر مقدرة على التعامل مع الساحة الوطنية وعلى كل حال فإن معظمهم لا يزالون قيد التجربة والشعب الموريتاني يعلق عليهم آمالا كبيرة لإخراجه من ويلات التخلف التي ما زال يتردى فيها..
معطيات سوسيو اقتصادية:
عندما عاد المثقف الموريتاني إلى وطنه وجد أمامه مجموعة من الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية التي يصعب تذليلها بالبساطة التي كان يتوقعها.
الصعوبات الاجتماعية:
تتمثل هذه الصعوبات أساسا في أمراض مجتمعنا التي ما زال يعاني منها حتى اليوم وهي الرشوة والقبيلة والمحسوبية. وكل “الألية” الضارة وقد تعززت هذه الأفكار وازدادت رسوخا بسبب غياب مفهوم الدولة عن ذهن المواطن. وفي النهاية رضخ المثقف لهذه الضغوط الاجتماعية بعد أن كانت الأنظار متجهة إليه لرفع مثل هذه التحديات ولا شك أنه كان يريد القول ـ كمبرر لهذا السلوك ـ أنه حاول باقتناع أن يقاوم هذه الوضعية في البداية لكنه لم يستطع الاستمرار في الصمود لكونه وجد القبيلة ملجأ له وحماية من المخاطر التي قد يتعرض لها وذلك في انتظار ترسيخ مفهوم الدولة وتدعيم مصداقيتها…
الصعوبات الاقتصادية:
كان المجتمع الموريتاني آنذاك في تحول فرضته حتميات تاريخية معينة. فالجفاف فرض التقري والتقري فرض عصرنه الحياة ومتطلبات العصرنة تفرض التدخل السريع من أجل بناء منزل مريح على الأقل يساعد حل التفكير والاستماع والغاية تبر الوسيلة كما يقال. وهكذا وجد المثقف نفسه نظرا للمبررات الآنفة الذكر، مرغما على التفاعل مع هذه الوضعية كما شاءت لها الأقدار أن تكون، غير أن التعميم ينقص من موضوعية التحليل إن من بين هؤلاء المثقفين من ثابر وصابر ولم يلن عزمه وتابع المسيرة في الطريق الصحيح.
ونرجو ممن لم يلتحق بعد بالركب لأسباب قاهرة أن يشارك بدوره في المسيرة لكن على أسس نزيهة ومخلصة.
ماذا نريد من المثقف؟
لا شك أن الفرصة أصبحت ملائمة أكثر من أي وقت مضى.
ذلك أننا نعيش الآن عهد حركة 12 ـ 12، عهد تحرر الطاقات وإعطاء الكلمة للتنظيمات القاعدية من أجل مشاركة القوى الحية في البلاد. وإنني أعتقد أن على المثقف الآن أن يساهم كأولويات في مجالين اثنين هما: تعزيز القنوات الإعلامية والتأطير على المستوى الريفي بالإضافة طبعا إلى واجباته المهنية.
القنوات الإعلامية:
إن القاعدة الشعبية لم تصل بعد إلى درجة استيعاب الأحداث لا الوطنية منها ولا الدولية على حقيقتها. فالقرارات التي تتخذها القيادة الوطنية وتوجيهاتها العامة لا تقيم أبعادها ولا يفهم مغزاها الحقيقي بل تتعرض أحيانا إلى تفاسير خاطئة مرتجلة قد تصل إلى تشويه الحقيقة. وتزداد هذه الوضعية حدة في داخل البلاد الذي لم يحظ بعد بالوسائل السمعية البصرية (التلفزة مثلا)، هنا يتدخل دور المثقف كأنجع القنوات الإعلامية لتصحيح معلومات المواطن العادي وذلك بصفة عادية وهادئة حول مائدة الشاي وفي الحانوت وعبر الاحتكاك اليومي في المحلات العمومية…
التأطير على المستوى الريفي:
إن اقتصادنا كله في الريف وبالتالي فإن حضارتنا الأصلية كلها في الريف لذا ينبغي أن يخصص المثقف وقتا من فراغه ليعيش بين ذويه المزارعين وأهله المنمين لتوظيف طاقاته على تربة الواقع وليخفف ـ ولو نفسانيا ـ من وطأة نزعة التبعية التي بدأت مع الأسف تنمو بصفة ملحوظة في مجتمعنا، وحبذا لو أن المثقف الموريتاني قضى فترة من عطلته السنوية في منتزهاتنا الريفية بدلا من المتنزهات العقيمة والباهظة التكاليف في لاص بالماس أو…. كيف يمكن ذلك عمليا؟ إنني أعتقد أن المثقف هو سيد نفسه نظرا لما أؤتي من مواهب فكرية تجعله قادرا على التكيف مع مختلف الظروف والمتطلبات وأن أوضاع أمنه ماثلة اليوم بجلاء نصب عينيه ولم يبق أمامهم إلا الدخول في معركة التنمية كموريتاني مثقف مؤمن برسالته الخالدة. يقول الله عز وجل “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” ويقول المثل الغربي: ساعد نفسك تساعدك السماء.
وفي هذا المضمار فإنني أرى ضرورة إنشاء خلية للتفكير بعهد إليها بوضع مخطط واقعي متوسط المدى لمعالجة جميع أمراض مجتمعنا التقليدية لأنني أعتبر أن أزمة المثقف ليست في الحقيقة سوى جزء من كل وإن تعرض نتائج تفكير هذه الخلية على ندوة وطنية لدراستها وتعميقها واتخاذ الوسائل الكفيلة بتعميمها.
والكلمة الآن عند القارئ الكريم عله يقول لي: “انطلق من ذاتك”
محمد الحافظ بن أحمد مسك أستاذ
إطار بالشركة العربية لمعادن إينشيري (سامين) أكجوجت.
0 commentaires:
إرسال تعليق