ترجمة محمد بن محمد سالم المجلسي الشنقيطي

الاثنين، 14 نوفمبر 2011 Libellés :





السلام عليكم ورحمة الله وبركاته




هذه ترجمة العلامة أبي العلماء محمد الملقب بـ(دَبَّ سالمبن محمد سالم المجلسي رضي الله عنه ،وهي منقولة من مقدمة شرحه لكتاب الأخضري (مِنَح العلي في شرح كتاب الأخضري) الذي أعده للنشر وطبعه السيد : محمد محفوظ بن أحمد جزاه الله خيراً ، وصدرت طبعته الأولى سنة 1426 هـ / 2005 م .




وكاتب هذه الترجمة هو أحد الأعلام البارزين في بلادنا ، العلامة الشيخ : اباه بن محمد عالِ بن نِعْمَ العبدُ المجلسي حفظه الله تعالى .






....


ترجمة
محمد بن محمد سالم المجلسي الشنقيطي


رضي الله عنه




أما مؤلِّفُ الشَّرحِ فهو العالِمُ العلامة مالكُ أزِمَّةِ الفضائل والسالك من طرق العلوم أحسن وأفسح المسالك :محمد بن محمد سالم بن محمد سعيد بن محمد بن عمر بن أبي السيد بن أبي بكر بن علي بن يمغدش بن وديعة الله بن عبد الله بن أحمد بن يفت بن يذر بن إبراهيم الأموي (الذي يعود نسبه إلى عبد الله بن عُمَرَ بن عبد العزيز بن مروان )


كان جدُّه محمد سعيد قد نزح من موطن عشيرته الْمَجْلِسِيِّينَ (الْمِدْلِشْ) في الجنوب الغربي من القطر الشنقيطي إلى الشمال في صدر القرن الهجري الحادي عشر وأقام هناك . وكان من أعيان الْمَجْلِسِيَّة ثم صاهر أسرة آل الطالبْ اعْلِ : فتزوج من ابنتهم "ادْهَـيْـمَ" بنت الطالبْ اعْلِ ، أخت الحاج المختار (جد القبيلة الكريمة الشهيرة : أهل الحاج المختار) ، وأقام في الشمال .
وكانت أسرته كغالب الأسَر أو القبائل الموجودة في تلك الناحية آنذاك : أسرة بدوية متنقلة مُلْكُها قطيع إبل ترحل به جنوباً وشمالاً في ذاك القطر بحثاً عن المرعَى والكلأ .
وقد ولد له ثلاثة أولاد اشتهروا فيما بعد ، وهم : محمد سالم و عُمَرُ وأحمدُ ، وتأهلوا في تلك المنطقة الشمالية ، وساروا على نهج والدهم .
وكان محمد سالم منهم من أهل العلم والفضل ، وكان حافظاً لكتاب الله العزيز ، له معرفة خاصة بالفقه الخليلي . وكان له قطيع إبل بعضه مُحَبَّسٌ عليه يرحل به مع إخوته ، وغالب سكنه في مناطق تيرِس وآكشار وآمساكًـه ، ينزل هنا تارة وهناك تارة أخرى وكانت هذه الأسرة ومن تفرع عنها – رغم نزوحها عن وطنها الأم (الجنوب) وقلة عددها آنذاك – تُمَثِّلُ الأخلاق الْمَجْلِسِيَّة من النخوة والأنَفَةِ وإباية الضيم والجود والكرم والاستقلالية ؛ فكانت بِمَعْزِلٍ عن بيت الإمارة ، تُمَثِّلُ ما يُعْرَفُ مَحَلِّياً (ازْوَايْتْ الشمس) . وكانت علاقتها بالأمراء والزعماء وسائر القبائل علاقة طيبة مبنية على الاحترام والتقدير المتبادل .
وفي هذه البيئة البدوية و الناحية الشمالية الغربية من القطر الشنقيطي ، والأسرة العلمية المتنقلة صيفاً وشتاءً ، ولد لمحمد سالم بن محمد سعيد ابناه الْخَيِّرَان : أحمد و محمد ، من أمهما حفصة بنت سيدي محمد بن عبد الله بن المختار التيشيتي . وقد توفي عنهما والدهما في وقت مبكر من نشأتهما ، وورثا منه قطيع إبل ، وبدءا حياتَهما في ظروف مليئة بالصعاب وفي محيط قاسٍ ، غيرِ مشجعٍ على تحصيل العلم والمعرفة . فنشآ على النهج نفسه الذي كان عليه أبوهما وجدهما . إلا أنهما سرعان ما توجها إلى طلب العلم والإقبال على تحصيله بهمةٍ عالية ونية خالصة .
أما أحمدُ فتغرب عن أهله ووطنه لطلب العلم في الناحية الشرقية من البلاد الشنقيطية حتى أتقن حفظ القرآن وحصل منها على سندٍ عالٍ ، وتفقه في الدين حتى صار معدوداً في العلماء والقراء والفتيان . وورث ذلك منه ابنه العلامة الجليل والشاعر الْمُجِيدُ عبدُ الله بن أحمد وزاد عليه .


وأما محمد (ويلقب دَبَّ سالم) فقد ولد في منطقة تيرس الغربية سنة ستٍّ ومئتين وألف 1206 هجرية ، فنشأ في كنف والديه ورعايتهما ، وخصوصاً أمه السيدة حفصة بنت سيدي محمد ، وبدأ – كعادة أبناء محيطه – بدراسة القرآن العظيم في وقت مبكر من حياته على والدته وخاله محمد بن سيدي محمد . وكانا غاية في الذكاء والنجابة وسرعة التحصيل . الشيء الذي جعله يتقن القرآن حفظاً وضبطاً وتجويداً وهو ما زال في عقده الأول من عمره .
ثم صرف همته إلى طلب العلم في منطقته وأكب على طلبه وانقطع إليه وشغف به ، وكانت له موهبة فائقة وحافظة خارقة ومثابرة على مطالعة الكتب ومراجعتها ، وجد واجتهد في طلبه ليلاً ونهاراً .
وقد أخذ عن بعض أعيان منطقته وفقهائها ، ومن بين من أخذ عنهم : والده محمد سالم ، ثم التحق بالعلامة الفقيه حامد بن أعمر البارتيلي فأخذ عنه مختصر خليل بن إسحاق بكامله ومكث عنده فترتين من الزمن إحداهما استغرقت ستة أشهر والأخرى أربعة أشهر ، وكان غالباً ما يقرأ عليه بين صلاتي المغرب والعشاء ، وربما قرأ عدة أقفافٍ دفعة . وقد قيل إن أول ما قرأ عليه باب الشهادات ثم باب الخيار ثم أكمله عليه ، وكانت له قبل قراءته عليه معرفة به من خلال مطالعة شراحه وسائر الكتب الفقهية . إلا أنه كان يقول : لم تزل بيني وبين نص خليل ظلمةٌ حتى قرأته على حامد .
كانت محظرة حامد بن أعمر هذه كغيرها من المحاظر الشنقيطية محظرة بدوية متنقلة من مكان إلى آخر ، ومن المواضع التي كان محمد يقرأ على حامد فيها موضع يسمى لِكًـْـلَيْتاتْ قرب أكًـْـجُـوجَتْ ، وعقلة لَـبَّـه (بتفخيم اللام) المشهورة في آكشار ، ثم موقع يعرف بأعلابْ جَرْكْ في آمُشْتِيلْ جنوب آوكارْ ، وفي هذا الموضع الأخير فتح الله عليه ، وولد له بعد ذلك به ابنه العابد الذاكر القانت الحافظ لكتاب الله حبيب الله بن محمد .
وكان محمد متواضعاً يخدم شيخه وغيره من أهل الفضل والصلاح ؛ فمن ذلك أنه اتفق أن نزل بعض مشايخ عصره مرة في الحي الذي يقرأ فيه ، والحي آنذاك في الموضع المذكور (أعلابْ جَرْكْ) فَضَلَّ جملُ ذلك الشيخ فلم يجده ، فخرج محمد خفية في طلب ذلك الجمل ولم يعلم أحد بخروجه ، حتى وجده فأتى به إلى الشيخ المذكور ، ووجده في المسجد في جمع من المصلين وقت صلاة الظهر ، وكان راكباً على الجمل بلا رحل ، فلما نظر إليه الشيخ قال : الله يعطيك الِّ في التواضع [ أسألُ الله أن يعطيك ما في التواضع] ، فكان محمد بعد ذلك يقول : دعا لي دعوة نلت منها !
ثم كان اعتماد محمد في طلب العلم على المطالعة بالدرجة الأولى ، سواء في ذلك كتب الفقه أو التوحيد أو التفسير أو الحديث أو اللغة العربية ، حتى برع فيها وحفظ الكثير من النصوص وتبحر في العلم وتعمق في شتى الفنون ، وكانت له اليد الطولَى في الفقه وعلم الكلام ، وله فنية تخصصية في مختصر خليل بصفة خاصة ، وفي النصوص الفقهية بصفة عامة . شهد له بذلك معاصروه . وقد أوتي ملكة التعبير وحل المشكل وفتح خبايا النصوص . كما كان ذا معرفة فائقة بعلوم القرآن والحديث الشريف واللغة العربية ، وإن كان اعتناؤه بها في مجال التأليف أكثر شمولية منه في مجال التدريس .
ولما أكمل دراسته بدأ في بناء مؤسسات الحياة التي هي الحالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية ، فأسس محظرة جديدة أصبحت فيما بعد من أكبر أمهات المحاظر في القطر الشنقيطي ، وسياتي الكلام عليها ، كما أسس أسرة جديدة ، حيث صاهر خاله الشيخ الفاضل : محمد بن سيدي محمد التيشيتي على بنته فاطمة ، وولد له منها أبناؤه الأربعة الأقطاب العلماء الأجلاء : أحمد وعبد القادر وحبيب الله وعبد الله وأختهم رائعة ، وكانت أسن من الأبناء .
ثم اشتغل إلى جانب هاتين المؤسستين بالتكسب ؛ فكان له قطيع إبل ينميه ويقوم بشؤونه يتألف من ثلاثة أنواع : قسم ورثه من أبيه وبعضه حبس ، وقسم حبسه عليه ابن عمه الْجَوَادُ المشهور السَّخِيُّ الْمُنفِقُ في سبيل الله : الحسن بن عُمَرَ بن محمد سعيد الذي كان مؤازراً له وخير مُعينٍ ، وقسم ملك له من تكسبه الخاص .
وهكذا بدأ محمد من جديد في العمل للدنيا والآخرة ؛ فاشتغل بالتدريس والتاليف والتكسب جنباً إلى جنبٍ في آنٍ واحدٍ . وكانت له مثابرةٌ على ذلك منقطعة النظير يصحبُها عونٌ من الله خارقٌ للعادة . ومن نماذج ذلك ما يُحْكَى عنه من أنه كان يذهب في رعي إبله يحمل بعض الكتب ويسير أمام الإبل في المرعى ثم يجلس في ظل شجرة أو صخرة أو جبل ويضع كتبه أمامه فيشتغل بمراجعتها والتاليف والكتابة ، فإذا بعدت عنه الإبل سار حتى يتجاوزها فيجلس أمامها ، ثم لا يزال كذلك حتى يحين وقت العودة فيحمل كتبه ثم ياخذ معه "رأساً" (رُزْمَةً) من نبت "اسْبَطْ" وهو شجر الحلفاء ويعودُ إلى أهله مع الليل فيتفقد أحوالهم ويصلح شؤونهم ويبدأ في التدريس للطلاب ؛ فإذا انتهى من ذلك أمر بإيقاد النار بذلك "اسْبَطْ" ، وجلس للكتابة على ضوئها ، فكلما خَبَتْ يأمر بعض تلامذته بتحريكها وإشعالها ؛ وكان له تلميذ خاص اسمه زياد بن بابي الكُمْلَيْلِي ، كان كثير الملازمة له ، فمما يوثر عنه أنه كان إذا خبت تلك النار يقول له : "زيَّادْ دِيرْ عُودْ" (أي زِدْ حَطَباً) وذلك لزيادة ضوء تلك النار حتى يتمكن من مواصلة الكتابة ..... ثم لا يزال كذلك حتى يمضي ما شاء الله من الليل .
ثم يبكر على التدريس للطلاب وسَدِّ حوائج أهله وإصلاح شأن إبله التي ينطلق أمامها إلى المرعى حاملاً كتبه يطالعها ويولف ... حتى يحين الرواح ..... وهكذا دواليك .
وفي بعض الأزمنة تسوء حالة الإبل فتصاب بالجرب ، فكان حينها يقوم بنفسه بصناعة طلاء الإبل لدواء الجرب ؛ فيصنعُ أحياناً خليطاً يُسَمَّى : "لِعْكًِيدْ" يغليه على تلك النار التي يكتب على ضوئها ، وأحياناً يتخذ دواءً آخر من لبن "الفرنان" (إفراز شجر اليتوع) فيطلي به إبله عند الصباح لعلاجها من الجرب ... إلى غير ذلك من الجد والاجتهاد وتحمل الأمور الصعبة الدنيوية والأخروية . وما كان - إلى جانب هذه الأعمال الشاقة – يفتر عن التدريس للطلاب في وقت من الاوقات . وهكذا كان محمد بن محمد سالم رجل الدنيا والاخرة ، ورغم تواضعه وورعه اللذين يضرب بهما المثل فقد كان ذا شكيمة ونخوة وقوة في إباية الضيم . وكانت له علاقة طيبة بأمراء وزعماء عصره وخصوصاً منهم : أمير الترارزة محمد لحبيب ، وابنه اعْلِ ، وأمير آدرار أحمد بن امحمد (المشهور بأمير السلم) . كما كانت له علاقة بالزعيم محمد بن الخليل الرقيـبي وبسائر زعماء قبائل الرقيبات ، وأولاد ادليم ، وأولاد اللب . وكانت كلها علاقات مبنية على الاحترام والتقدير المتبادل ، وكانت له عند هؤلاء جميعاً وجاهة عظيمة ، يقبلون بها وساطته في كل من توجه به إليهم وفي كل من احتمى به من أهل الشوكة ، فكان مرهوب الجناب محترماً عند الجميع .
ومما يروَى من ذلك أنه مرة سار إلى الأمير اعْلِ بن محمد لحبيب كوسيط في قطيع إبل قد نهبه بعض من بني عمومة الأمير من بعض زوايا منطقة محمد المجاورين له ، فرحب به ورد عليه الإبل وطمأنه بأن ذلك لن يتكرر ، ثم سأله الأمير عن أفضل ما يشتغل به مما ينفعه في الآخرة ؟ فقال له محمد : أن تترك خلطة الناس وتشتغل بعبادة ربك وتترهب في رؤوس الجبال ! فرد عليه اعْلِ قائلاً : لقد عجبت منك ، تامرني بالعزلة والترهب في شعاب الجبال وتطالبني في الوقت برد مظالم اللصوص ؟!! .
ويروَى أيضاً أن اعْلِ هذا نزل مرة بقرب حي محمد بن محمد سالم فجاءه تلامذة محمد يجمعون "الختمة" 1 فبحث في حيه "الْمَحْصَرْ" عن خيمة جيدة فلم يجد فيه إلا خيمة عند مُغَنٍّ له – وذلك لأنهم كانوا يتركون خيمهم وأثقالهم في الجنوب حتى يعودوا إليها من نجعتهم في الشمال – فاشتراها من المغني بجمل جيد وتحمل له عدد شققها إذا رجعوا إلى موطنهم في القبلة ، ودفع الأمير الخيمة المذكورة إلى تلامذة محمد ، فكانت الخيمة الأولى التي عرفها طلاب محظرة آل محمد سالم ، وانتشرت على غرارها خيم الطلاب في هذه المحظرة بعد ذلك . ومما يروَى أيضاً أن محمداً هم مرة بالحج فأخبر أبناؤه أمير آدرار أحمد بن امحمد بذلك فأرسل إليه إني سأرافقك لأداء فريضة الحج ، فرد عليه محمد بأنه لايمكن أن يسر عن هذه البلاد لما يلحق أهلها من الضرر بذلك وتعرضهم للفتن والنهب وعدم الأمان ؛ فرد عليه الأمير : إن في مسيرك أنت عنها مثل ذلك وأنا مُقَلِّدٌ لك في ذلك إن سِرْتَ أسيرُ وإن جلستَ أجلسُ ! ، فترك محمد المسير لذلك .
أما محظرته فقد اسسها في منطقة تيرس الغربية ، وعاشت طيلة حياة صاحبها وبنيه في الشمال . ورغم قساوة الطبيعة وشح المصادر فقد ازدهرت ازدهاراً منقطع النظير ، وقامت على ظهور الْجِمال في حياة بدوية وحل وترحال دائبين في رحلة الشتاء والصيف ، وكانت تجتاز أكثر من ألف كيلو متر في الصحراء بحثاً عن المرعى والكلأ . فكانت تسير من "أكًـانْ" إلى "تيرس" مروراً بـ"ـآوْكَارْ" و "آمليل" و "آمخاسير" و "إينشيرِ" و "آمساكًـه" و "آكشار" و "تيجريت" و "آزفال" .... وغالباً ما تكون الحياة معاناةً بين العزم والإرادة وقهر الطبيعة ، و لاسيما في منطقة "تيرس" المترامية الأطراف ، وربما وقع الخصب وازدهرت الأرض فألقت المحظرة عصا التسيار وازدهرت حياتها العلمية . ومما يروَى من ذلك أنهم مكثوا مرة سبع سنينَ في ضواحي جبل يعرف بـ"اصْطَيْلِتْ ولْ بوكًـْـرَيْنْ" في الجنوب الشرقي من "دومس" لم يغب عنهم ذلك الجبل طيلة تلك الفترة . وقد أصبح مصلى أحد منازلهم - لطول المكث وكثرة الطلاب - مستنقعاً للماء بعد رحيلهم عنه بسنين عديدة ، ظاهرة منه أماكن صفوف المصلين .
وقد ظلت هذه المحظرة منذ تأسيسها - رغم هذه الظروف المذكورة - محط رحال طلاب العلم والمعرفة ، وأغار ذكرها وأنجد ، وذاع صيتها وبلغ إشعاعها من الانتشار ما يصعب تصوره . وفسرت القرآن الكريم والحديث الشريف والسيرة النبوية ، وبلغت في علمي الكلام والفقه مبلغاً لم يبلغه غيرها . وكان نص خليل بن إسحاق يوجد في ألواح الطلاب متكاملاً لكثرتهم . وقد سئل محمد رحمه الله عن فرض العين من الفقه فقال : " خليلٌ كلُّه " (أي قراءة مختصر خليل كله) ! ؛ وأصبحت هذه المحظرة من أمهات المحاظر الشنقيطية التي نشرت العلم وبثته في الوطن الموريتاني وخارجه ، على أيدي مؤسسها محمد وبنيه وأحفاده وخريجيه الكثر .
ومدحها وقرظ مؤلفاتها العديد من علماء عصرها من داخلها وخارجها ، كالشيخ محمد المامي ومحمد فال بن محمذ بن أحمد بن العاقل الشَّمْشَوِيَّيْنِ ، وبابَ بن الشيخ سيديَّا ، وسيدي محمد بن دادَّاهْ الانْتَشَائِيَّيْنِ ، وأبناء ما يابَى الجكنيِّين ، وأبناء محمد بن عبد الجليل العلويين ، والدَّدُو محمذ فال بن محمد مولود المباركي ، والشيخ أحمدُّ بَمْبَ البكي من السينيغال وأعيان حسنيين .... 
كما أشاد بها وشهد لها الكثير من الكتاب والمؤرخين ، ومما قيل فيها : (إن بداية محظرة آل محمد سالم هي نهاية غيرها من المحاظر) ، وجعلها الشيخ سيديا الكبير المثل الأعلى في زمانها ، ووصفها بعض المستشرقين الفرنسيين بقوله : "كانت محظرة أهل محمد بن محمد سالم مدرسة عليا للحقوق يبعث لها العلماء تلامذتهم" ...
وقد ضربت إلى هذه المحظرة أكباد الإبل من كل حدب وصوب من شتى أصقاع القطر ومختلف طبقات المجتمع وأصبحت جامعة متكاملة تغرب إليها مئات طلاب العلم عن أهلهم وأوطانهم لينهلوا من مَعينها ويعَلُّوا من مختلف علومها ومعارفها ، وكانوا يستفيدون من غَلة مواشي أصحابها وزكاتها .
وكان المتخرجون من غيرها من المحاظر يتوافدون عليها ليعيدوا فيها ما قرؤوه من قبل ويدرسوه دراسة عليا ، وانتفع بعلمها كثير من الناس وحمل عنها العلم في شتى البقاع .
وكانت تدرس بها الفنون جميعاً ، وخير شاهد على ذلك ما قاله العلامة الأديب الشريف بن سيد احمد بن الصبار (من قصيدة له في مدح محمد وبنيه) :


بهمُ ليالي الأصبحية أصبحت
وعويص علم الدين فُكَّ حجابُه
بهمُ كتابُ الله أُتقِنَ : حفظه ،
تاويله ، تجويده ، إعرابه
علم القواعد والأصول قد احْكِمَا
علم البيان بهم أُذِلَّ صعابه
وكذا التصوف والحديث وقد أضا
علم النُّهَى أشكاله وحسابه
والسيرة الغراء أُكْمِلَ عِلْمُهَا :
غزواته ، وبعوثه ، أنسابه




.... الـــخ


وفي مختلف طبقات طلابه وكثرة المنحدرين من جميع الأقطار إليها يقول العلامة الكبير والأديب الشهير : عبد الله بن أحمد بن محمد سالم ، من قصيدة له في رثاء محمد :


سَلِ الزوايا وسائل عنه حسانا
واسأل دُلَيْماً وداماناً وديْمانا
سل الكرام بني يعقوب عنه وسل
مجالس العلم واسأل عنه جاكانا
سل إيدَوَعْلِ وسل ابنا أبي حسن
واسأل كرام بني أبْيَيْرِ تبيانا
والغر من تندغَ الشُّمَّ الألَى عرفوا
أفاضل الناس في اللأواء عرفانا
وسائلن عنه الاشراف الكماة بني
أبي السباع تُجَبْ سرّاً وإعلانا
سل عنه من شئت ممن أنت تعرفه
وسائلن عنه هيَّان بن بَيَّانا


.... الـــخ


هذا وقد كرَّس محمد رحمه الله جهوده منذ نشأته إلى شيخوخته في التدريس والتعليم ، وبثَّ العلم في صدور الرجال ، ونشره بالتاليف والتفسير في بطون الكتب .


وقد كان علم الكلام يحتل الصدارة في ترتيب العلوم في محظرته ، وجعله من أول مقرراتها ، ودرَّسَهُ وحثَّ عليه لأنَّ فائدته معرفة الله ورسوله التي هي السعادة في الدنيا والآخرة لمن اتصف بها . وقد ألف فيه نظماً شرحه ابنه عبد القادر ونظماً آخر في التوحيد يقع في مئتي بيت ، ضمَّنه ما يجب في حق الله تعالى وما يجوز وما يستحيل ومتعلقات أركان الإيمان الستة ، في أسلوب بديع . كما ألف فيه كتابه الدر النظيم في الثناء على المولى العظيم ، وكتاباً في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يقع في نحو ستين صفحة يسمى الدليل المستنير في الصلاة على البشير النذير صلى الله عليه وسلم ، ورسالة حول الطريقة الصوفية النقشبندية .


ثم ياتي علم الفقه في الدرجة الثانية - ولا تحتاج عناية هذه المحظرة به وتخصصها فيه إلى برهان (متى احتاج النهار إلى دليل!!) - وقد ألف فيه شرحه لمختصر خليل بن إسحاق المسمى لوامع الدرر في هتك أستار المختصر ويقع في سبع مجلدات ضخام ، وكان قد انتهى من تاليفه قبل وفاته بثلاثين سنة . كما ألف فيه أيضاً كتاب مِنَح العلي في شرح الأخضري وهو الذي نقدم له ، ونظماً بديعاً في قواعد المذهب المالكي ، وكتب فيه رسائل في مناظرات فقهية أكثرها حول زكاة مال مستغرقي الذمم ، وقسمة الحبس ، والجيم الشديدة والخفيفة ، والقصر في أرض الخوف ، وغير ذلك .......


ثم تاتي علوم القرآن والحديث في المرحلة الثالثة ؛ إذ هما مبنى الشريعة وأساسها ، ومبدأ خيري الدنيا والاخرة . فالقرآن من حيث التفسير والقراءات والأحكام والنَّسْخ وغيرها ، والحديث من حيث الشرح و مصطلحه وصحيحه وحسنه وضعيفه وغير ذلك . وقد ألف فيهما كتابه الريان في تفسير القرآن ، ويقع في سبع مجلدات ضخام . وكتابه النهر الجاري على صحيح البخاري ويقع ايضاً في سبع مجلدات ضخام . وتقول بعض الروايات إن كتبه الثلاثة : اللوامع والريان والنهر مكث في تاليفها إحدى وعشرين سنة لكل جزء منها سنة ، وإنه ابتدأ في تاليفها في العقد السادس من القرن الثالث عشر الهجري ، وإن أول ما بدأ به منها لوامع الدرر . وكان رحمه الله قد كتبها كلَّها بيمينه ، وكان جيِّد الخط صحيحَه ، وما زالت بعضُ نُسَخِهَا موجودةً بخطِّه عند أحفادِه .
وإلى بعض هذه المؤلفات يشير العلامة الشريف بن سيد احمد بن الصَّبَّار بقوله في قصيدة يمدح بها آل محمد سالم :


ما مات من أبقى "اللوامَع" بعده
و"النهرَ" يجري تستهلُّ سحابُه
ولَبَحْرُه "الرَّيانُ" يُحْيي وحدَه
يَشفي غليل ذوي الغليل شرابُه
ولَحَسْبُهُ "الدر النظيم" حُلىً ولم
يُسبق إلى ما جاء فيه كتابه
لا تنس "وَشْيَ الأخضري" فإنه
حتمٌ إذا حُسِبَ الخِصَالُ حِسَابُه




وقد قرظ هذه المؤلفات ومدحها الكثير من علماء وأدباء ذاك العصر ، مثل العلامة عبد القادر بن محمد الذي يقول من قصيدة له :


أحْيَا الهدى بكتابه "الريان"
مَن حازَ شَأوَ السَّبْقِ في الميدان
أحْيَا منار الدين بعد عفائه
وجلا خفي غوامض الفرقان
وجلا عرائس قد أبت وتمنعت
عن غيره في غابر الأزمان




ويقول الشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل :


لمعت لوامعنا "اللوامع" كالدُّرَرْ
فسَقَى لنا "الريَّانُ" ريَّانَ النَّهَرْ
بحر تقاذف دره من موجه
أكرِمْ ببحرٍ موجُه كلاًّ دُرَرْ






ويقول الدَّدَوْ (محمذ فال) بن محمد مولود المباركي :


بَنَتْ هِممُ العالي على من يفاخرُهْ
له في الورى سوراً فقلَّ مُفَاخرُهْ
تَمَطَّى رجالٌ كي ينالوا مقامَه
وقد فاتهم مما أرادوا أواخره
تبوَّأ أعلى الجود والمجد منزلاً
ولم يكُ آلُ بيتك عامرُه
وكيف يَنالُ البدرَ عند ارتفاعه
قصيرٌ أشَلُّ الرَّاحتين يُساوره
تَحَلَّوْا وحَلَّوْا ب(اللوامع) وارتوَوْا
ورَوَّوْا ب(رَيَّانٍ) تسُحُّ مواطره
وبالنَّهَر الجاري غداً لنَبِيِّنا
لفي (النهر الجاري) جَنَى الدُّرَّ ناظره
لقد هُتِكَتْ أستار كُلِّ مُخَبَّإٍ
وذُلِّلُ صعبُ العلم فيها ونافره
تنافسها أهل العلوم لفضلها
ويزهد فيها سيئ الفهم قاصره






ويقولُ محمد فال بن محمذن بن أحمد بن العاقل [بَبَّهَا] :


طربتُ شوقاً وما شوقي إلى الْحَوَرِ
ولا اللمَى بذوات الدَّلِّ والخَفَر
ولا لربعٍ بذات الضَّالِ من أجَلِي
ولا الأجارع من أنجادِ ذي عُشَر
لكن طربتُ على روضٍ كساهُ أبو
عُذْرِ المسائل ألواناً من الزَّهر
فزُرْهُ إن شئتَ تبصرْ كلَّ ما عَجَبٍ
بين (اللوامع) و (الريان) و (النهر)




وقد كان محمد رحمه الله في تعلمه وتعليمه وتصنيفه وجميع أعماله يصحبه إعجازٌ غريب وبركة لم ير مثلها . وكان تقيّاً نقِيّاً كريماً زاهداً حليماً متواضعاً حسن الخلق ، منفقاً تعيش الفقراء والضعفاء في كنفه ، ثمالاً لليتامى والأرامل عالي الهمة طائر الصيت خالد الذِّكْر ذا كرامات مُجابَ الدعوة عابداً لا يخاف في الله لومة لائم ، وكان أورع أهل زمانه حتى قيل في وصفه مع بعض علماء البلاد " إن في بلاد القِبْلة مجتهداً مُطْلَقاً مُلَفَّقاً بين علماء : فقهه عند محمد محمود بن حبيب الله الإيجَيْجْبِيِّ ، وعلومُ آلته عند محنض بابَه بن اعبيدْ الديماني ، ولغته عند شيخنا اليعقوبي ، وورعه عند محمد بن محمد سالم المجلسي " ؛ ولما سمع ذاك الشيخ سيديا الكبير قال " ذهب بها المجلسي ! " .
وكان رحمه الله طويل القامة قوي الجسم خفيف اللحية أصفر اللون ، وقد تفرغ رحمه الله في آخر عمره للعبادة والذِّكْر والتفكر . ولم يزل كذلك على أن توفي بعد صلاة الظهر يوم الجمعة آخر يوم من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثمئة وألف 1302 هجرية ؛ في أرض تعرف بـ"آمُـدُّكًـنَ" تقع بين تيرس ولكرب حول جبل يسمى "تندكًـْـمَ" ، ونقل على أعناق الرجال إلى مدفن بئر تسمى "دومس" في منطقة تيرس عن عمر يبلغ ستاً وتسعين سنة .
وقد تخرج من محظرته من يعيَى عن عدِّهم الفَكُّ ، ويضيق عن حصرهم الصَّكُّ ، ومنهم على سبيل المثال أبناؤه الربعة وخصوصاً منهم العلامة المدرس خليفته الأكبر أحمد ، والعلامة المؤلف عبد القادر ، والشيخ الفقيه عبد الله ، وكلهم مدرس ؛ وقاموا بشأن المحظرة في حياته ورعوها حق رعايتها بعد وفاته ، ولما توفي رحمه الله طفِقَ الشعراء والأدباء في رثائه والثناء عليه ، فمن ذلك قول بعضهم :




تناثر دمع العين مني على الرِّدا
متى ما نَعَى الناعي الإمام محمدا
وأصبح ركن الدين غير مشيد
وقد كان بالشيخ القويم مشيدا
وأغمِدَ سيفُ الحق من بعد موته
وكان به سيف العلوم مجردا
إماماً غدا سبل السلامة سالكاً
به لاح ضوء الحق من بعد أحمدا
إماماً له في الفضل أشرف موطن
أنار عويصاتٍ من العلم شُرَّدا
إماماً علا في المكرمات وذكره
(أغار لعمري في البلاد وأنجدا)
فقد بدد التاليفَ شرقاً ومغرباً
فأضحى به عافي الفنون مجددا
فكم قد تخلى بالعبادة وحده
فلم يُرَ إلا في الفلا متوحدا
به برقت قطعاً بروق (لوامع)
إذا شامها الموصوف بالحيرة اهتدى
وب(النهر الجاري) الشرب جارياً
وما الري ب(الريان) يُلْفَى مُصَرّدا
تلاميذه صار الخليل (خليلهم)
ومن فضله نالوا المقاصد والهدى
وكم قيدوا نور الحديص ببابه
كما قيدوا نور القُرَان مؤيدا
ولو رام منه قطُّ في الجود حاتم
مسابقة عنه تقاصر في المدى
وأقصرت الأمطار عن سيب نفله
ولا البحر يحكي في الكرامة سؤددا
فيا رب هذا الشيخ لا زال رَاضِياً
لديك ووسعْ لحده متوحدا
وقابله بالرضوان وافتح له غداً
من الجنة العلياء باباً مصمدا
وعوض له وسط الجنان منَ اهله
كواعب أتراباً من الحور خُرَّدا
وصلَّى على خير الأنام وآله
واصحابه ربُّ العباد ومَجَّدا




وقال آخر :


لقد حل خطب يملأ البر والبحرا
فلستَ إذا أبقيت بعض الحيا حُرّا
وناعٍ نعى إنسان عين فؤاده
فلم أر ما أجرى من الدمع ما أجرى
أتنعى بفيك التربُ أسمى معلم
وأربَى إذا ما عُدَّ أهل التقى قدرا
إذاً صارت الأحياء موتى لموته
- لك الويل - والعمران من موته قفرا
لئن علَّني شهداً زمان حياته
لجَرَّعني أضعاف ما علَّني صبرا
هو الملكُ القهار عدلٌ قضاؤه
ويقضي علينا من مشيئته جبرا
سيمضي من الأعمال ما هو خالص
وتبكي علوم الشرع من فقده طرا
وقد طردَ البِشْرُ الأسى إذ رأيتهم
ينابيعَ علمٍ كلهم يُخجلُ الدرا
ينابيع علم بارك الله فيهمُ
فأكرم بهم فرعاً وأكرم به نجرا
فكم فض مختوماً من العلم وامتطى
مخدرة عزت على غيره بكرا
سباها بحظ من ظُبَى الفهم أولاً
ومن كل بِرٍّ ساقَ أيضاً لها مهرا
فأبدت علوماً جمة وفوائداً
وأبدى من المخزون في صدرها النزرا
فشق لنا شرح ابن موسى بفكره
كما شق موسى قبله بالعصا البحرا
وقدمها نصَّين للمبتغيهما
فمن شاء فلياخذ كما يبتغي درا
إمام حباه الله نافع علمه
فعفَّ ولم ياخذ على علمه أجرا
وهشت له الدنيا لكي تستهيله
فصد عن الدنيا لضرتها الأخرى
فقد حسنت أخلاقه وطباعه
فكل غريب جاء يلفي أباً بَرّا
رؤوفاً رحيماً خيره دون شره
فمن زلَّ لا يخشى ملاماً ولا شرّا
أعدت له في جنة الخلد خيمة
من الدين في أكناف مورده ذخرا
وروح وريحان بها وكواعب
ورؤية رب عندها تنتهي البشرى
صلاة وتسليم على خير مرسل
مع الآل والصحاب إثرهم تُجْرَى

1 commentaires:

Unknown يقول...

شكرا لكم

إرسال تعليق

 
مدونة مدينة اكجوجت © 2012 | تعريب وتطوير : سما بلوجر | Designed by Blogger Hacks | Blogger Template by ColorizeTemplates